السبت، 29 ديسمبر 2012




فنتازيا



دخل محل بيع تراثيات قديمة لا لشيء سوى إشباع غريزة الفضول وحب الاستطلاع  ، لعله يستوحي من المعروضات فكرةً تعينه في هوايته في الرسم وصنع النماذج ، تمعن السيوف والخناجر القديمة أعجبه لمعان نصولها وبريق  الأحجار الكريمة التي تزين بعض مقابضها وأغمادها ، وتيقن إن مثل هذه السيوف لم تكن تستعمل لغير الاستعراض وتكملة أناقة الفرسان !!! ... إذ لم يلحظ أي ثلمة ولو صغيرة في نصول أيٍ منها ، توجه الى جناحٍ آخر يحوي جرار نحاسية وبعض قناديل الزيت والشمعدانات البراقة ، توقف طويلاً أمام مصباح زيتي وتذكر قصة علاء الدين ومصباحه السحري ، مدَّ يده متحدياً التحذير الذي يمنع اللمس ... فركَ المصباح وهو يبتسم فيما كانت صورة الجني العملاق لا تفارق ذهنه ، تمتم في سره أيعقل أن يتسعَ مصباح لا يزيد في حجمه على قبضة يدٍ واحدة إلا بقليل حجم ذلك الجني ذي الأكتاف العريضة والعضلات المفتولة ..؟؟ .
اتسعت ابتسامته حتى بانت أسنانه البراقة ... هم بالانصراف ، وقبل أن يكمل دورته على عقبيه وجد نفسه مطوحاً في الهواء ويسقط في فوهةٍ صغيرةٍ حتى كادت أقدامه أن تلامس صدره لفرط ما تعرض له من ضغط عمودي ...!!!!.
لم يفهم ما جرى له بادئ الأمر أدرك بعدَ هنيهةٍ انه وسط باحةٍ في زقاق تحوي عددٍ من البيوت دون أي علامةٍ من علامات الحياة كأن الزمن توقف لحضتها وما عادت الحياة تمثل له في تلك اللحظة غير مقبرة يلفها صمت وسكون مطبق... صمت قاتل يلف كل شيء حتى بيوت العنكبوت التي كانت تملئ المكان لم يكن فيها عنكبوت واحد وخيوطها مستقرة دون حراك كأنها رسم في جدار ، نهض على قدميه متثاقلاً والألم يعتصر صدره من فرط السقطة ، أدار ناظريه ذات اليمين وذات الشمال لعله يلحظ علامة واحدة يستدل بها على ما جرى له ، أدرك باليقين انه داخل المصباح الزيتي ... ولم تكن تلك القوة التي طوحت به في الهواء غير ذراع الجني وعضلاته المفتولة ، اكتنفه خوف مرعب ... اقشعر بدنه وسرت في أوصاله رعشةٌ يشوبها بردٌ غريب ، جلس القرفصاء في إحدى الزوايا لعله يلحظ الجني أو حتى علاء الدين ويعتذر لهما عما اعتراه من أفكار ومن شكوك في قصة المصباح ، ولكن انتظاره كان دون جدوى فالزمن هنا متوقف والضوء خافت على الدوام فلا أثرٌ لضوء الشمس ولا لظلال البيوت ، ترى ما مصدر الضوء داخل المصباح ؟؟ ... لا شك انه نور ذاتي دون مصدر !!! ... لم لا ؟؟!!! ، ألم يكن هو مصباح يستضاء به ؟؟؟ ، وقف مرةً أخرى بعد أن زال عنه الخوف وأخذ يتجول بين أركان البيوت ، دخل باحات  البعض منها مستمتعاً بصرير أبوابها الذي يختلف واحداً عن الآخر ، بيوتاً عتيقة الطراز بأقواس وشناشيل وزجاج ملون ، غير إن ما بها من أثاث يتناسب والعصر الحاضر فالبرادات ومكيفات الهواء لا يكاد أن يخلو منها بيت رغم عدم توفر الكهرباء فكيف تعمل هذه الأجهزة بدون كهرباء ؟؟ ... لا أحد يعرف ...!!
 لا أثر لشيء يؤكل ولا لماء يشرب ، أحس بالجوع والعطش معاً ، فتح بابَ برادٍ في أحد البيوت وكان الغبار يشكل طبقةً سميكةً تغطيه حتى أخفت علامته التجارية ، أثار دهشته ما وجد من خضارٍ  نضرة ومن فاكهةٍ طازجة وكأنها قطفت تواً ، هم بقضم تفاحةً من فرط ما يشعر به من جوع ولكن الخوف من أن تكون تلك الفاكهة غير صالحة للأكل منعه من ذلك ... شيء آخر منعه من تناولها ... هو شكل التفاحة فقد كانت كمثرية الشكل ويملأ قشرتها المسام تختلف عن شكل التفاح الذي يعرفه وتعوَّد عليه ، أما البرتقال فقد استطال شكله حتى بات قريب الشبه بحبات الموز ... الموز الذي يتذكره على الدوام ويتذكر الكيفية التي تناول فيها تلك الفاكهة في صغره أول مرة فقد قضمها مع القشرة مما أثار ضحك والديه وتندرهما بتلك الواقعة على الدوام  ...!!.
 لا أحد يعلم كم مرَّ من الوقت وهو داخل المصباح غير انه أدرك بحسه ومن بعض الأصوات التي تناهت إليه مثل صوت مزلاج المتجر عند إقفاله لعل الوقت قد تجاوز أربع ساعات على أقل تقدير . ترى ما الوضع في الخارج ؟ ... لعل القلق بدأ يتسرب
الى فكر والديه..!!  إذ تعود أن لا يطيل المكوث خارج البيت أكثر من ساعتين .. كيف سيتمكن والداه من تناول طعامهم دونه ، وكيف السبيل الى الخروج من هذا المكان الموحش!!! ... تبدو الآمال ضعيفةً في الخلاص من هذا المأزق ، خطرت في باله فكرة التواصل مع العالم الخارجي بواسطة إشارات المورس التي تعلمها  قبل سنوات في فصيل كشافة المدرسة ولكن ما الفائدة الآن ؟؟؟ ... سوف لن يسمعه أحد قبل أن يفتح المتجر بعد ثمان أو عشر ساعات على أقل تقدير .. شعر بإحباط شديد والقلق ينتابه من المصير المجهول ... سيبلغ ذويه عن فقدانه السلطات ولكن لن يتم البحث عنه قبل مرور يومين على أقل تقدير ، وان كان ذلك فمن يا ترى ستخطر في باله فكرة وجوده داخل المصباح ؟؟ ، ومن يصدق تلك الرواية إن خرج وحكى لهم عنها ؟؟!!! .
تسلق سطح أحد البيوت لعله يقترب من فتحة المصباح ويجد مخرجاً ، رفع رأسه الى الأعلى ، لم تكن هناك غير نجوم تشبه في بريقها لآلئ منثورة على قطيفة حالكة السوداء ، سماء صافية كصفاء سماوات صحراوية تمتد الى ما لانهاية ... يا لها من لوحة فنية رائعة... سبحان من رسمها وأبدع في رسمها ... سبحان من رسمها وأبدع في رسمها .. سبحان من رسمها وأبدع في رسمها ..كرر تلك الجملة في نفسه أكثر من مرة دون وعي ، وتذكر انه يجب أن يقدم في اليوم التالي نموذجه لأعمال الرسم والفن الى مدرس التربية الفنية إذ كان يؤدي الامتحانات النهائية ولم يتبق من تلك الامتحانات غير مادة التربية الفنية ، جلب انتباهه صوت أمه وهي تناديه بإلحاح...!!!  ترى  ماذا تفعل أمه هنا هل هي محجوزة أيضاً داخل المصباح ، ألح الصوت عليه بالنهوض قبل فوات الوقت... أصاخ السمع ..حاول التركيز .. أزاح الغطاء عن رأسه وإذا بأمه تمسك بين يديها نموذجاً ورقياً لمصباح زيتي وتقول له هيا انهض وتناول فطورك ولا تنسى المصباح الذي أمضيت الليل بطوله تلصق وتلون أطرافه  ..!!!.

                                               تمت
                                                                                 بغداد/حزيران 2006