الأربعاء، 20 سبتمبر 2017




قَتْلٌ على الهَويةِ 

يوسف الطائي 

الى دعاة الحرب الطائفية ان كانت دعوتهم بقصد أم بغير قصد اقول لهم ...لا تنسوا تلك الأيام السود التي كان بها رب الأسرة ان خرج ليجلب لعائلته ارغفة خبز من المخبز القريب لم يكن متأكد أيعود لعائلته أم لن يعود واذكرهم بقول أشرف خلق الله ...
ان الفتنة نائمة لعن الله من أيقضها ...
صدق رسول الله .

دخل المقهى على عجلٍ بشفاهٍ ترتجف وعيون حائرة .. اتخذ ركناً قصياً دون أن يلقي التحيةَ على أحد ، كان يحدق في البعد الرابع دون أن يدرك حدوداً لذاك البعد ، يحدث نقسه متسائلاً و بصوت مسموع ... كيف كان المجتمع وما آلت إليه حاله...؟ كيف أصبحت الدنيا بعد ما كانت...؟ ، أمسى الأخ يقتل أخاه والجار يغدر جاره ... تلك خصال سيئة لم تكن في مجتمعنا قبل بضع سنين ، ترى ما السبب في انتشارها الآن .؟ وما هي الأصابع الخفية التي تحركها وما الهدف منها..؟



أصبح حالنا كحال بني إسرائيل وقتلهم لأنفسهم بعد تيههم في الصحراء أربعين سنة تكفيراً عن خطاياهم بعد أن اضَّلَهم السامري بعجله الذهبي ..!* 
اتخذ مقعداً منفرداً كي لا يشاركه فيه أحد ... تقدمت منه وأنا أوجس خيفة من ردات فعله الغير متوقعة ، إذ كان يثور و تجحض عيناه الغائرة بعد انتفاخ أوداجه حينما يُسْئَلُ عن أمور بعيدة عن معاناته الأبدية ... تلك المعاناة التي جعلت منه ناقداً بألذع الكلمات وأقذعها ، وهذا ما جعل الكثيرين يتحاشون الصدام به...، سألته بعد أن رميت عليه تحية يحبها . 
- ترى ما الذي يشغل بال الحكيم ..؟ 
أشار علي بالجلوس دون أن ينبس ببنت شفه. 
جلست قبالته منتظراً أن يبدأ الحديث ، كان منشغلاً بالنظر إلى ورقة بين يديه ، قرأها أكثر من مرة... طواها ...أفردها ثانية ..أعاد قراءتها تمتم بصوت مسموع ( انا لله وانا إليه راجعون )..تابع بعد برهةٍ من الصمت...(( تصور يا أخي ذهبت اليوم صباحاً إلى محافظة قريبة لقضاء بعض الأعمال وفي طريق العودة في شاحنة صغيرة جلس بجانبي شاب أنيق الملبس بذوق ظاهر، بادرني التحية والباص لم يتحرك بعد ، طلب مني أن نتبادل عناوين أقرب شخص يعرفه كل منا وذلك بغية إخباره في حال حصول مكروه في الطريق لأي منا سيما وان الطريق محفوف بمخاطر نقاط تفتيش وهمية تخطف و تقتل على الهوية !!!. 
تحرك الباص ...المباني والبيوت وكل دلائل الحياة بدأت بالاختفاء تدريجياً بعد أن تجاوزنا أطراف المدينة ...لم يعد هناك ما يغري المرء بالنضر خلال النوافذ ... الركاب جميعاً دون استثناء تخبئ ثنايا ملامحهم خوف وقلق ولولا مكابرتهم لأفصحوا عن ذلك الخوف الذي أصبح ملازماً للكل مع دوام الوقت..!!. الخوف من المجهول والخوف من المفاجئات التي يخبئها لنا الطريق بعد إن وّطَّدَ تآمره مع القدر..!. 
كانت السماء مكفهرة وقد تقاسمتها غيوم سوداء متفرقة تشوبها حمرة في أطرافها وكأنها نذير شؤم اشرأب بملامحه من خلال الأفق الدامي البعيد ..كان ذلك قبيل الغروب بدقائق ...الشارع يبدو خالياً إلا من بضع مركبات ، كان بعضها يتجاوزنا ويتبادل الركاب نضرات قلقة خائفة من البعض للبعض ..!!!.ذلك هو حال الجميع ، حتى أثناء السير في الطرقات . 
مزق السكون صوت بوق لمركبة مسرعة تروم تجاوزنا ... انتبه سائق مركبتنا لذلك البوق فأتخذ الجانب الأيمن من الطريق بغية فسح المجال لتلك المركبة..وما إن جاورتنا تلك المركبة حتى دارت جميع الرؤوس ناحيتها . 
كانت مركبة حديثة يستقلها رجال ثلاثة يعملون على تغطية وجوههم بلثام يخفي ملامحهم فيما كان رابعهم يطل علينا من سقفها المفتوح وبوجهٍ سافر ملوحاً لنا بمدفعه الرشاش ويأمرنا بالتوقف جانباً معززاً أمره ذاك برشقة طلقات من مدفعه في الهواء..!!! 
كان رجل المدفع هذا يحمل ناظوراً يتدلى من رقبته ...مرت الثواني كالدهور ..أحسست بخافقي يغوص إلى أخمص قدمي فيما كانت دقاته المتسارعة تهز أذناي وتحاول أن تخرج ما خلف طبلة الأذن إلى الهواء..!! ، توقف سائقنا بعد عناء ، إذ اختلطت عليه آراء الركاب ومقترحاتهم ، فمنهم من يقول له أن يسرع ولا يتوقف ومنهم من يشير عليه بالتوقف قبل أن يفتح علينا الملثمون نيران أسلحتهم ...توقفت مركبة الملثمين بشكل يقطع علينا الطريق إذ وضعوا مقدمة مركبتهم على حافة الشارع .. ترجل منها ثلاثة شاهرين أسلحتهم الرشاشة فيما بقي الرابع يرقب الطريق بمرقابه الليلي ، همس جاري في اذني ( لا تنس ما أوصيتك به وأوصل الورقة إلى قريبيي على العنوان المذكور فيها ).... كان شاباً مفتول العضلات يتضح من تقاسيم جسمه انه قد مارس الرياضة لفترة طويلة... فتح أحد الملثمين باب المركبة أمرنا بصوت أجش أن نبرز هوياتنا بعد أن تفحص الوجوه بدقة ..ركَّزَ نظراته عليَّ ..شعرت برعشة غريبة تسري في أوصالي ...خوف شديد يمتد الى عمق ذاكرتي ...صباي ... طفولتي التي عانيت قساوتها المشربة بخوف أبدي فيما راحت نبضات القلب تعزف لحناً تزداد إيقاعاته اضطراباً مع الوقت حتى خُيل لي إن انفجاراً وشيكاً سيحدث من فرط ارتفاع دقاته .... هممت بدس يدي في جيبي ...صاح الملثم بعد أن شهر سلاحه في وجهي: 
- لا تتحرك وإلا ملأت صدرك دخاناً .!!( يقصد من كثرة الطلقات ) وتابع القول مخاطب جاري : 
- أنت الأفندي بطاقتك بسرعة ...( لم أكن اعلم إن المقصود هو جاري وليس أنا إذ تبين فيما بعد إن الملثم كان أحولاً ) . 
قدم الشاب بطاقته الشخصية تفرس بها الملثم .. أودعها جيب سترته البيضاء التي تحول لونها إلى البني بفعل ما يعلوها من دسم وبقايا شراب ، قال مخاطباً صاحبها بنبرةٍ آمرة : 
- انزل بسرعة ....تحرك الشاب يروم النزول وقبل أن تطأ قدماه الأرض عالجه الملثم بضربة من أخمص بندقيته دفعته إلى الأمام وجعلته يجثو على ركبتيه من شدة الضربة ..!! 
نهض الشاب..متثاقلاً ..متألماً ..هزَّ رأسه مستنكراً ..نضر حواليه ...كان هناك كومة من حجارة لا تبعد عن موضع سقوطه غير بضع خطوات... على حين غرةٍ قفز الشاب بحركة رياضية ... اختبأ خلفها ...أخرج من وسطه مسدساً صوبه إلى الملثم ...أطلق عليه عيارات متلاحقة ثلاث.. أخطأته اثنتان فيما أصابته الثالثة في بطنه ... سقط الملثم على الأرض مضرجاً بدمه ...!!! سيطر الخوف على الجمع من فرط المفاجئة ..!! صوب بقية الملثمين نيران بنادقهم على الشاب الذي عالجهم بدوره ببعض الطلقات من مسدسه دون أن يصيب أحد...إنها معركة غير متكافئة غير إنها تنم عن شجاعة الشاب المتناهية ..مزق السكون صوت المدفع الرشاش لرجل الناظور فيما تأرجحت راقصةً مساند مدفعه الأمامية رقصة الفرح بموت أحدهم ... أصبح الشاب جثة هامدة ...!! ..تقدم ناحيته الملثمان بحذر شديد وبعد أن تأكدا من مقتله هرعوا صوب زميلهم المصاب كشفوا عن بطنه للتأكد من مدى إصابته...حملوه على عجل إلى مركبتهم ثم عادوا إلى القتيل ...جروه من قدميه ووضعوه بجانب مركبتنا ..رفسه أحدهم في صدره قائلاً ((سنجعل منك عبرة لمن اعتبر..!!!)) أخرجوا من صندوق مركبتهم صفيحة بنزين وقاموا برشها على جثمان القتيل...!!.. اصفَرََّتْ الدنيا في عَينَيَّ...اجتاحتني موجة من غثيان غريب ورغبة عارمة في القيء من شدة الخوف...يا الهي سيشعلون فيه النار...!!! ( قلتها في سري ) ، ما عدت أرى شيء غير علبة الكبريت التي أخرجها أحدهم من جيبه... تحسست جيبي للتأكد من الورقة التي أودعني إياها الشاب ..توقف الزمن بانتظار عود كبريت أبى أن يشتعل بالرغم من تكرار المحاولة أكثر من مرة ...كان رجل المدفع يرقب الطريق بمرقابه الليلي ذات اليمين وذات الشمال مع إن الظلام لم يغلف المكان بعد.. رمى الملثم عود الكبريت أرضاً وسحقه بقدمه تذمراً لكونه أبى الاشتعال بسبب قطرات المطر والريح ...أخرج عوداً آخر وقبل أن يحاول إشعاله صاح رجل المدفع بهلع وخوف ..كبسة كبسة كبسة ..( ذلك مصطلحا تستعمله العصابات عندما يداهمهم خطر ما ) كررها بشكل متلاحق مما حدى برفيقيه أن يهرعا ناحية مركبتهم حتى إن أحدهم نسي سلاحه قرب الجثة التي حاول إحراقها قبل قليل ..وبسرعة البرق انطلقوا بمركبتهم بعد إن تناثرت الحجارة والحصى من تحت عجلاتهم ...وما هي إلا بضع ثوانٍ وإذا بمدرعة تقف غير بعيد عنا ويكلمنا من فيها عبر مكبرة الصوت ...تقدم أحدنا ناحيتها رافعاً يديه علامة الاستسلام وشرح لهم الموقف ...ترجلوا من مدرعتهم وبعد أن استوعبوا الموقف أمرونا بالمغادرة وعدم التوقف لأي كان ، حملوا الجثمان معهم ... غادرنا موقع الحادث بدورنا وصمت مطبق يسود الجميع . حقاً إنها مأساة يعاني منها مستخدمو الطرق الخارجية ...لا بل حتى الداخلية منها ...، ما الحيلة إذا كانت الضرورة تدفع الفرد على التنقل والسفر ، إن شجاعة الشاب فيما لو تكررت لأيقن أمثال هؤلاء إن هناك من يقابل سلوكهم هذا بالرفض والمقاومة بل ربما يلحق بهم الضرر مما يحد من أعمالهم تلك. 
(( ألف مرحى لشجاعة نادرة كهذه ، وهنيئاً جنة الفردوس لنفس أبت أن تذهب دون مقابل .)) 
قال صاحبي كلماته الأخيرة بحسرةٍ واضحة وهو يفرد الورقة بين يديه ويقرأها مرةً أخيرة قبل يناولني إياها مع السؤال إن كنت أعرف العنوان أو صاحب العنوان ... أخبرته ... ( ليس بالضبط ولكن أعرف أصدقاء لي في نفس الحي ...ربما نذهب سويةً للبحث عن صاحب العنوان غداً أو بعد غد ) . 


*( قال تعالى : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ... صدق الله العظيم (54البقرة) 

تمت 
سبق وان نشرت هذه الحكاية في موقع العراق الأخضر الذي تفضل مشكوراً باضافة الصورة المعبرة 

وادرج في ادناه رابط الحكاية في الموقع.

http://advertisement.iraqgreen.net/modules.php?name=News&file=article&sid=32913


يوسف الطائي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق