الثلاثاء، 1 يناير 2013

أزمة حب الجزء الأول



أزمة حب  ...(1)   






تعولمت الأرض بقاراتها المأهولة الست ، وأصبح الحدث صورة وصوت لا يستغرق غير بضع ثوانٍ للانتقال من قارةٍ إلى أخرى .!!! ترى ماذا بعد... ؟ وما الذي سيقدمه لنا العلم من منجزات ومن إبداع العقل البشري الذي لم يتم استغلال غير عشر أعشاره .؟؟.
لاشك إن الخيال الواسع والخيال العلمي تحديداً سيسهم بفاعلية في إنجاز الكثير من المخترعات التي تبدو حين استعراضها الآن ضرباً من الخيال ليس إلا..
سيستغني البشر عن الكلام بعد أن يكونوا قد قطعوا شئواً في تنمية قابلية توارد الخواطر والإيحاء عن بعد ( الباراسايكولوجي ) ، ولا نستغرب من حضور اجتماع في قاعةٍ واسعةٍ تضم آلاف الحاضرين غير مجهزةٍ بمعدات تكبيرٍ للصوت ، إذ يكتفي المحاضر أن بضع طوقاً صغيراً على رأسه يبرز منه هوائي لا يتجاوز الإبهام طولاً يتم من خلاله بث المحاضرات أو ربما الأفكار والخواطر أيضاً ، وسيتلقاها الحاضرون عبر أطواقهم المماثلة لطوق المحاضر، ويمكن التحكم بشدة الصوت ونعومته عبر لمسة خفيفة لأذن الراغب بذلك !!! .
أما على صعيد الطاقة ، فهناك طاقة تبث بالموجات الكهرو مغناطيسية وهنالك طاقة على شكل كبسولات وحبيبات صغيرة شبيهة إلى حد ما حبوب الدواء وكبسولاته في وقتنا الحاضر ، وهذا النوع من الطاقة يستخدم في وسائط النقل البرية والبحرية والجوية بدل الوقود السائل والصلب ، أما الطاقة الكهربائية فلم تعد الأسلاك والأعمدة ضرورية لنقلها ، إذ ستنقل عبر الموجات الكهرومغناطيسية من محطة التوليد الصامتة ومن خلال الهوائي العملاق الذي يبثها كموجات الراديو إلى جميع الاتجاهات حيث تستلمها البيوت والمباني خلال هوائي يتناسب حجمه ومقدار الطاقة الكهربائية الضرورية للاحتياج ، وستختفي داخل المنازل أجهزة التحكم عن بعد ( الرموت كنترول ) وسيستعاض عنها بإيماءة إصبع وبعض التركيز ، وستشهد المختبرات البايولوجية تطوراً واسعاً من خلال ما توصل إليه علم الهندسة الو راثية في اختيار نوع وشكل ومواصفات الأجنة التي سيتم تكاثرها بالاستنساخ طبعاً وستختفي أو تضمحل المشاعر ويصبح الحب بلا معنى ولم يعد القلب يخفق ويزداد اضطراباً عند رؤية المحبوب  إذ لم يعد القلب غير مضخة للدم ليس إلا !!!.
وسيختفي الأثاث ... كل الأثاث من الوزارات والدوائر الحكومية..!! فلا دواليب ولا حافظات أوراق ولا أضابير ولا قسم أرشيف !!!، فقط حاسبة وكرسي دوار لكل موظف ينجز من خلالهما الأعمال المنوطة به ... ففي دائرة النفوس مثلاً يكون هناك موظفاً واحداً لكل حرفٍ من الحروف الأبجدية للذكور وآخر للإناث ، أما الأسماء المشتركة التي تصلح للجنسين فقد افرد لها قسماً خاصاً يشترك في إدارته شاب في منتصف العقد الثالث من العمر مع شابة تصغره ببضع سنين .
كان سعد ونسرين ... وتلك هي أسمائهم تربطهم زمالة عمل تمتد لأكثر من خمس سنوات ، كانت نسرين مولعة بقراءة قصص الحب الرومانسية ذات الورق الأسمر والعتيق التي تستعيرها من مكتبة جدتها لأمها ، وكانت تجد متعة متناهية في القراءة وتتفاعل مع أحداث القصة وتتأثر أيما تأثراً بتفاصيلها ، وتأتي في اليوم التالي وتحاول إيصال فصول ما قرأت إلى سعد عبر هوائي الحديث المثبت في طوق الرأس ، وكان سعد يجلس صامتاً يتظاهر بالاستماع ويكتفي بهز رأسه بين هنيهةٍ وأخرى ، وأثناء عملهم على الحاسوب الذي يشتركان به يحدث أن تتلامس أيديهما دون قصدٍ فتشعر نسرين وكأن تيار كهربي يسري في أوصالها فتنتشي من لمسةٍ غير مقصودة ، بينما سعد لا يبالي وكأن شيئاً لم يكن ..!!! ، تحاول نسرين عبثاً أن تجلب انتباهه عبر حركاتها وايمائاتها الأنثوية ولكن سعد شأنه شأن شباب عصره باردٌ لا يتجاوب ولا يتأثر بمحاولاتها تلك !!!. ، ينتاب نسرين قنوط وحزن شديدين ، تستشير جدتها شاكية من سلوك سعد ولا مبالاته ، تطمئنها الجدة وتخبرها إنها أيضاً ( أي نسرين ) مُقَّدَرٌ لها أن تكون حالتها مشابهة لحالة سعد لولا تداركها وتقوية مشاعرها العاطفية بقراءة الكتب والقصص  ، وتنصحها بتنمية مشاعر وأحاسيس سعد ربما يصل إلى المستوى العاطفي المطلوب ..!!!.
إذن يعيش هذا المجتمع أزمات من نوع خاص لا تشبه أزماتنا الحالية في شيء ، إنها أزمة عواطف وأزمة مشاعر  وأزمة حب ، الحب الذي لم يعد ضرورياً لاستمرار الحياة وتكاثر النوع ، فقد أصبح التكاثر يخضع لمفاهيم جديدة ووفق قياسات عامة تضعها سلطة عليا ، أما القياسات الخاصة فتوضع من قبل الزوجين ولم تكن تتعدى في أحسن الأحوال عن لون العينين ولون البشرة والشعر ..!! ، ولم يعد الزواج غير مشاركة في دفع الضرائب و العيش تحت سقف واحد ليس إلا !!!!.
تناضل نسرين من أجل رفع المستوى العاطفي لسعد ، فتتحين لذلك الفرص وتصطحب معها بعض الروايات العاطفية التي اختارتها لها جدتها ، يمسك سعد الرواية بين يديه ويقلبها دون اكتراث ، تقترح نسرين أن يقرآنها سويةً بعد انتهاء مناوبتهما ، يذهبان معاً إلى شقة نسرين ، الشقة تقع في الطابق العاشر ، يجلس سعد باسترخاء في مقعدٍ وثير بعد أن استحم بحمام الإشعاع والذبذبات ، حيث يستعاض عن الماء آنذاك في الحمام بأشعة فوق البنفسجية مخففة جداً وبذبذبات فوق الصوتية تبعث النشاط والحيوية في أجزاء الجسم دون أن تؤذيه...!!!.
يتطلع سعد بفضولٍ إلى الأثاث والى نباتات الظل المزروعة داخل الشقة والى حوض أسماك الزينة ، يسرح بعيداً بينما تكون نسرين منشغلةً في أعداد وجبة خفيفة ، يقطع الصمت هدير طائرةً عمودية تقترب من سطح البناية حيث مهبطها ... تأتي نسرين حاملةً ساندويتشات شرائح اللحم المصنع وعلبتين من مشروب غازي ، تسحب أحد المقاعد وتجعله ملاصقاً تماما لمقعد سعد الوثير وتمسك الكتاب وتبدأ بتقليب أوراقه السمر العتيقة وتختار عمداً من بين الفصول فصلاً فيه الكثير من الدفء العاطفي والحميمية الواضحة وتبدأ في الإرسال عبر طوق الكلام  ، يتماوج  ارسالها للصوت ويصبح أكثر دفئاً ، وتحمر وجنتاها حين ترسل بعض الجمل المثيرة ... يكاد قلبها بخفقانه المسموع أن يقفز من مكمنه خلف الصدر العارم و الممتلئ شوقٌ ورغبة ... تختلس النظرات الى سعدٍ لتلمح وقع الكلمات في نفسه ، وسعد هو سعد لا يبالي ولا يكترث ، لقد أعياها الصبر حتى كاد ينفذ ، ترمي الكتاب جانباً بهستيريةٍ واضحة وترتمي في أحضان سعد وتطبق على شفتيه بقبلةٍ محمومةٍ يملؤها شوقٌ وغريزة ورغبة أفقدتها الوعي للحظات ، وسعد يحاول جاهداً أن يبعدها عن جسده متسائلاً عن معنى هذه الحركات وتلك الفعال ..!!! ، و نسرين لم تفهم من كلامه حرفاً واحداً إذ سقط الطوق من رأسها نتيجة الانفعال ...سعد ينتفض واقفاً و يهم بالانصراف على عجلٍ وهو لم يكمل طعامه بعد ..!!
اُسقط في يدها ، لم تعد راغبةً في شيء ، سيطر الوجوم على المشهد برمته ، تبعته راكضةً تحاول إقناعه بالعودة وتعتذر منه ، لم يفهم من كلامها شيء ، وضعت يدها على رأسها لتعبر عن أسفها ومقدار اعتذارها .. أدركت حينئذٍ إن طوق الكلام غير موجود في مكانه ، أقفلت راجعة إلى الشقة يملؤها اليأس ويعتريها الحزن ...!!! إنها في أزمة خانقة ، تلك هي أزمة الحب .!

للحكاية بقية

                                  

                                                                                   يوسف الطائي
                                                                                بغداد/ شباط 2006 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق